خطط بغداد...والغموض الفريد
بقلم : د. احسان فتحي
معماري عراقي متخصص بالتراث الثقافي


تعقيبا على جهود الاخ المعماري زيد السعداوي وتثمينا لشجاعته في التصدي من خلال محاولاته الاخيرة لتحقيق جوانب من خطط بغداد وبعض معالمها الهامة، وهو موضوع هام وشيق وله علاقة وثيقة بعلم الاثار الحضري (Urban (Archaeology) ، ومايسمى بعلم الخطط (Topography) والذي نفتقره نحن المعماريون المؤرخون اوالاثاريون في العراق تماما. لقد حاول كل من الراحلين مصطفى جواد، واحمد سوسة، واحمد صالح العلي، واخرون،
الخوض في هذ العلم الصعب جدا لكنهم افتقروا الى صورالاقمار الصناعية، ولم تتوفر لديهم صورا فوتوغرافية كثيرة عن معالم بغداد التاريخية او مخططاتها المعمارية، ولم يكن لديهم اي مهارة لرسم الخرائط القياسية الدقيقة (Cartography) ، ولم يشاركوا في اي تنقيبات موقعية داخل بغداد ابدا، وبسبب كل ذلك النقص الواضح فقد وقعوا في اخطاء عديدة في تحقيقاتهم. اعتمد اغلبهم بالضرورة على وصف المخطوطات التاريخية المحققة وغير المحققة.
ان الذي يراجع مخطط دار الخلافة في الرصافة، الذي اعده مصطفى جواد مثلا، يجده مرسوما دون مقياس محدد او اي دليل مادي اركيولوجي للسورالمقوس الهائل مثلا (راجع المخطط المرفق).

انها مجرد (رسومات) اولية جدا جدا ولا يمكن ان يعتد بها علميا. وينطبق ذلك ايضا على مسألة تحديدهم لاماكن ومواقع العديد من المعالم الهامة كالجوامع والمدارس المختفية منذ فترة بعيدة وتشخيصها بانها كانت اصلا تسمى كذا وكذا دون اي دليل علمي اركيولوجي حاسم (Conclusive). ومن الامثلة الصارخة على عجزنا في هذا الشأن هو عدم معرفتنا اين كانت بالضبط بغداد المدورة والتي كانت عاصمة العالم لاكثر من 500 عام! هذا الامر يعتبرحقا من غرائب التاريخ الفريدة! كذلك عدم حسم هوية المبنى العباسي الشاخص في وزارة الدفاع حتى الان وهوالذي يسمى رسميا ب (القصر العباسي) بالرغم من اصرارالبعض على انه (المدرسة الشرابية). واذا سألني احدهم عنه فساقول ان عمارته تدل على انه كان مدرسة دينية وليس قصرا للخليفة الناصر. ويقول البعض بان مجمع السراي والقشلة تم تشييده فوق اثار المدرسة الموفقية العباسية دون ابراز اي دليل مادي سوى وصف ما في مخطوطة! ما هو الاثبات؟ وهناك امثلة مشابهة كثيرة...وهناك من يعتقد بان (سوق دانيال) هو بالضبط مشيد على اسس (المدرسة النظامية) الشهيرة، وانا اميل الى ذلك! فهل يصح ان نكتب تاريخنا حسب اجتهادات وتخمينات غير مسندة ...وقد تكون حتى خاطئة تماما ؟
وتكمن المشكلة الرئيسة عندنا هي في اختفاء واندثار وتغيير اسماء المباني والاماكن والشوارع والانهار مع مرور الزمن. فلقد طمرت جميع الانهارالعباسية الهامة التي كانت تسقي مزارع بغداد من الفرات، وكان اخرها هو نهر الِخر الذي صمد حتى عام 2002. نحن العراقيون اثبتنا للعالم كله مهارتنا الفائقة في طمس معالمنا التاريخية...عندنا يصنع التاريخ...وعندنا يقبر التاريخ!
لذا، فقد اصبحت عشرات الكتب والمخطوطات المذهلة التي ألفها أفذاذ المؤرخين والجغرافيين أمثال: الخطيب البغدادي، اليعقوبي، ياقوت الحموس، الطبري، البلاذري، المقدسي، ابن سرابيون، ابن الاثير، ابن حوقل، ابن عسكر، المسعودي، وابن الجوزي واخرون، كلها اصبحت صعبة الفهم والتتبع بسبب اندثارالاغلبية الساحقة من اسماء الاماكن والابنية التي يذكرونها. ومن سوء الحظ انها لم تشفع باية رسومات او مخططات او خرائط كالتي رايناها في مخطوطات اخرى. نحن لانعلم مثلا لماذا لم يرسم الفنان العظيم يحي الواسطي مدينة واسط او بغداد؟ لعله رسم مدن عراقية عديدة لكنها لم تصلنا.

اما بالنسبة لمسألة مستوى نهر دجلة المتغير دوما فنحن نعلم ان منطقة الرصافة الحالية في بغداد كانت مسورة باحكام من جميع الجهات وحتى، طبعا، من جهة النهر. وكانت هناك باب واحدة على النهر فقط (باب الجسر) وكانت مرتفعة نسبيا وتسمح للناس عادة بالدخول والخروج في الاوقات الاعتيادية وتغلق تماما في الاوقات الخطرة. ان ما كنا نراه في بغداد من (مسنايات) ضخمة وعالية على دجلة حتى فترة الستينات هي، في الحقيقة، بقايا من السور النهري العباسي، واستغلته العوائل الثرية لاحقا كاساس لبناء الجبهة النهرية لقصورهم الجميلة وبرواشنها المطلة على دجلة، مقلدين بذلك الخلفاء العباسيين والاثرياء من حاشيتهم. ان ارتفاع السور ومابقى منه من مسنايات كان يصل الى حوالي عشرة امتار فوق الجرف الترابي، وبالتالي كان هذا الارتفاع يتحمل كل تغيرات مستوى دجلة المخيفة ويحميها من الفيضانات. هذا يعني ان بغداد كانت مخفية تماما للناظر الذي ينظر اليها من زورق في دجلة ، او في اي مكان منها من خارج السور. كانت بغداد تظهر من النهر كسورعال من الاجر تتخلله احيانا الرواشن العالية لقصور الخلفاء والاثرياء, ولربما ترى بعض المأذن والقباب العالية، وخاصة من صوب الكرخ او من مسافة بعيدة.
اما (المشارع)، ومفردها (المشرعة، وبالعامية "الشريعة" )، وهي المحطات النهرية، فقد كانت متواجدة طبعا على امتداد ضفتي النهر لكن مداخلها كانت بالضرورة مرتفعة ولا يتم الوصول اليها الا من درج طويل وذلك لاسباب امنية، ولانها كانت تمثل نقاطا نهرية رخوة لاختراق العدوالغازي.

بالنسبة لجامع وتربة السيد سلطان علي وتكيته الرفاعية، فهنا ايضا لا يوجد دليل حاسم ومادي حتى على اصل الدفين وهو السيد (علي). هناك من يعتقد بانه يرجع للفترة الجلائرية ( 1296-1393) وتحديدا الى الوالي علي الجلائري الذي قتله اخوه في عام 1383. والبعض الاخر يعزيه الى (علي بن يحي الرفاعي) المولود في البصرة عام 1088م وانتقل الى بغداد في عهد الخليفة المسترشد بالله، وهو ما يفسر تحوله الى الطريقة الصوفية الرفاعية. ويبدو من المقارنة المعمارية مع جوامع بغدادية شيدت في الفترة الجلائرية (راجع الصورة) يتبين الشبه الكبير في طريقة ابراز حوض المأذنة الاجرية باسلوب "التدرج المسنن" وليس بالمقرنص كما جرت العادة خلال الفترة العباسية. ومن المؤسف جدا ان الجامع تعرض الى الهدم في عام 1934 بسبب توسعة شارع الرشيد وحينما كان محمود صبحي الدفتري هو امين العاصمة. هدمت الواجهة الجميلة المطلة على الشارع والتي احتوت على بوابة واسعة وشناشيل في الطابق العلوي، وايضا المنارة التاريخية التي كانت مزينة بخط الخطاط التركي المشهورعثمان ياور والذي جاء مع الوالي حسن باشا في 1891 ودرس الخط في مدرسة الصنائع ببغداد، واستبدلت بمنارة جديدة مقرنصة تختلف كليا عن الاصلية.

اما الطامة الكبرى فقد جاءت في يداية التسعينات حينما أجرت الدائرة الهندسية بالرئاسة تغييرات شاملة وهدمت جامع السيد سلطان علي التاريخي واستبدلت اغلبه بجامع جديد تماما بحجة التعمير والتطوير. كانت هذه العملية ومثيلاتها التي حصلت في العراق لجوامع تاريخية فريدة منها: جامع ومرقد الشيخ معروف، مرقد وجامع الامام الدري، جامع الاربعين في تكريت، وجامع النبي يونس في الموصل، تمثل جرائم ثقافية كبرى سببت في خسارات لاتعوض في التراث العراقي.
Comments powered by CComment