رمزية الإرث وحيوية الذاكرة لدى العراقيين القدماء
نشر المقال في مجلة الجديد اللندنية ( العدد 77- حزيران 2021 - أضغط هنا من فضلك لزيارة موقع المجلة).
عبدالسلام صبحي طـــه

الشكل(1) اريدو ( وتعني المدينة البعيدة او القصية) و التي هبطت فيها الملوكية من السماء لاول مرة، و ترقى الى حوالي 5400 ق.م.
اليمين - فوتوغراف من حفريات اريدو وتظهر الطبقات ال 17 التي تؤشر الى الادوار المتراكمة - اليسار: رسم تخييلي لزقورة الابسو ( نون كي ) حيث مسكن إله الماء والحياة إين-كي
نصوص الفأل – الشومّا آلو
الشكل (2) موقع أثري عراقي، يظهر في رفوف لمكتبة كانت تحفظ فيها الرقم المسمارية وتكون بالعادة ملحقة بالمعابد
طقوس صيانة البنايات القديمة
البناء والترميمات في مدينة أور
الشكل (3) زقورة اور ما كانت عليه (ربما ! ) في عهد العاهل البابلي نبونئيد ( باللون الاخضر ) وما آلت اليه في مطلع القرن العشرين
ام المنقب البريطاني تشالرز ليونارد وولي، المكلف ببعثة التنقيب المشتركة للمتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا، في الأعوام (1922 – 1934) بحفريات واسعة في مدينة أور العراقية القديمة (تل المقير) في محافظة ذي قار الحالية، وكانت شاملة إلى الحد الذي جعلنا نتعرف على ما كان يجري في هذه المدينة على مسافة زمنية تقرب من (1500 عام) من عمليات ترميم مستمرة للمنشآت والأبنية في حي المعابد على وجه الخصوص، حيث الزقورة الشهيرة (واسمها إي- تيمين- ني – كور) التي شرع ببنائها الملك أور- نامو مؤسس سلالة أور السومرية الثالثة التي دام حكمها من 2113 – 2005 ق.م، والذي أتم بناء طابقها الأول على أسس مصطبة كانت تسبقها بقرون، وربما استكمل بناءها ابنه شولجي من بعده. وعلى ما يربو من 1500 عام، حرص ملوك العراق القديم من بابليين وآشوريين على وضع لمساتهم بأعمال الترميم والتجديد على مرافق الحي المقدس المختلفة، وتركوا نصوصا حول ما قاموا به، فنجد ذكرا لأعمال ترميم على الزقورة قام بها الملك الكشّي كوركالزو من العصر البابلي الوسيط (1595 – 1150 ق.م) تلتها أعمال ترميم على المعابد قام بها الحاكم الآشوري في أور سين- بلاطو- أكبي، أعقب ذلك رعاية خاصة تكفل بها ملوك بابل الحديثة، فنجد آجرات مختومة باسم الإمبراطور البابلي نبوكودوري أوصّر الثاني (نبوخذنصر في العهد القديم، 605 – 562 ق.م) في أرجاء حي المعابد، تشير إلى أنه قد رمم القسم الأكبر من أبنية حي المعابد وسوره بالجدار المقدس (واسمه إي- كيش- شر- كال) وتلت ذلك أعمال تشييد وصيانة لا تزال آثارها واضحة نفذها نبونئيد اخر ملوك بابل الحديثة (555 – 539 ق.م)، فهو الذي جدد الزقورة وعلى النمط القديم مع بعض الإضافات الواضحة في الواجهة الأمامية والسلالم الجانبية، وقد عُرف عن نبونئيد ولعه بالبحث عن القطع الأثرية القديمة وتجميعها ولذا مُنح لقب الآثاري الأقدم في التاريخ، ولا أدل من هذا الشغف أنه قد خصص غرفة في أحد المعابد لتجميع العاديات، وكانت ابنته الأميرة الكاهنة العظمى في أور (بيل شالتي ننا) مسؤولة عن تنظيمها وترتيب القطع وذكر تفاصيل عنها كما في المتاحف المعاصرة.
الشكل (4) رقيم مسماري يفصل شروحات لقطع بلغتين (سومرية و اكدية) من الغرفة المتحفية للأميرة البابلية بل شالتي ننا في مدينة اور
يورد ليونارد وولي في كتابه “أور الكلديين”، خبرًا متعلقًا بالملك نبونيئد مفاده “خلال أعمال التجديد لمعبد الإله سين في أور، فإنه قد أمر بحفر الأرض للتفتيش عن المخطط للمعبد الأصلي، كي يتمكن من إعادة البناء وفق التصميم الأول حفاظا على قدسية المكان، وخلال الحفريات فقد عثر على رقيم طيني باسم الملك السومري (بور سين،) الذي حكم في أور بحدود 1500 عام قبل زمن نابونئيد تقريبًا، فأمر كتبته باستنساخ الرقيم القديم وقام بوضعه في محله وطمره بالتراب، وفي النهاية يسجل وولي شهادة لا أروع بحق هذه البلاد وأهلها بالقول “يبدو أن حرفة التنقيب لدى سكان بلاد ما بين النهرين القدماء، عريقة كتاريخهم، وأن التبجيل لآثار العصور القديمة وخطورة محوها أو العبث بها تسري في دمائهم كسريان الأسطورة في مدوّناتهم”.
تواصل حضاري بين حاكم سومري وآخر آرامي
وردتنا نصوص لحاكم آرامي اسمه (أدد نادين أخي) عاصر الحكم الفرثي في أواخر القرن الثاني ق.م، وكانت مقاطعته تتمتع باستقلال شبه ذاتي، وكانت تقع تحديدا في الموقع القديم لمملكة لجش السومرية (وعاصمتها جرسو– وتعرف حاليا تلّو)، حيث عثر بناؤو قصره الجديد خلال الحفر على تماثيل تعود للحاكم السومري الشهير جوديا ( ومعنى اسمه المنصّب حكمة )، وهو أمير من سلالة لجش الثالثة (حوالي 2164- 2144 ق.م) والذي سبق الملك أخي زمنيًا بألفيتين من الأعوام تقريبًا، يرد في النص أن الملك أخي “قد أمر البنائين بجمع اللُقى القديمة وعرضها في ركن خاص بالقصر، وطلب من كتبته قراءة النصوص التي دونت عليها باللغة السومرية، وتقليد الكتابة بذات أسلوبها الأصل وباللغتين الآرامية واليونانية، وكذلك اشترط على البنائين أن يحاكي التصميم المعماري لقصره الطراز السومري القديم للمنشأ.
الشكل (5) لوح الحاكم أدد نادين أخي مدون عليه نص ثنائي اللغة ( ارامي و يوناني) والارامي مدون بنسق الكتابة المسمارية السومرية
إن الأمثلة التي جرى سردها أعلاه، تُثبت بلا شك مديات احترام العراقيين القدماء لإرث أسلافهم الغني، ومسؤوليتهم بنقله جيلا إثر آخر، توكيدًا لأمانتهم في الحفاظ على الإرث والذاكرة. يعتبر التراث الثقافي ركنًا أساسيًا من أركان الوعي الجمعي، وما نودّ أن نتلافاه حقا هو أن نفتح حوارا مع جيل عراقي في المستقبل عن المنجز الحضاري لأسلافهم، فنجدهم يحارون بالرد جراء جهلهم بالأمر، وهذا إن حصل فهو نتيجة طبيعية للتغييب الحاصل حاليًا من جهة المناهج الدراسية والوضع الكارثي للإعلام المسيس والتسويق التجاري الذي يسطح عقل المواطن، ناهيك عن عمليات المحو الممنهج لمكامن الحضارة في حواضر العراق القديم وشواهده كما حصل خلال فترة الحصار الظالم على العراق او مع الإرهاب الداعشي في محافظة نينوى وبشكل مخطط له، يهدف إلى قطع حبل المشيمة بين الماضي والحاضر وترك ذاكرة الأجيال نهبًا للتلاشي. إن محاربة التجهيل الحاصل للأجيال الناشئة بل والمجتمع بشكل عام تعتبر بمنزلة مهمة نبيلة ومشرّفة، تستلزم منا جميعًا كورثة لمساهمات أسلافنا في مسيرة البشرية، أن نحفظ للعراق هيبته أمام أمم العالم ومكانة منجزات أهله السامية في منظومة الحضارات، لأنهم والحق يقال وضعونا تحت مهمة جسيمة ولكنها مشرفة بتوريثنا ثٌرى الوادي العريق الذي تحركت منه عجلة التاريخ.
Comments powered by CComment