القوى الكونية المؤنثة في العراق القديم
د.عبد الامير الحمداني
المدونة الرسمية - العراق في التاريخ
المقال منشور في موقع خمسة نجوم، اعلاميون بلا ابواق ( اضغط هنا من فضلك )
رسمة لبصمة ختم اسطواني من الحقبة الاكدية، تُظهر انثى وخلفها افعى تجلس قبالة ذكر وبينهما نخلة
محفوظ في المتحف البريطاني و اصطلح عليه الاسم ( الاغواء )
#سلام طه
حظِيَت المرأةُ في العراقِ القديم بمكانةٍ مرموقةٍ ومميّزة، إذ تُظهرُ المدوّنات والأعمال الفنيّة المكتشفة مكانتها في نظرِ الأقدمين وكيف أنَّها شغَلَت مواقع مرموقة في المجتمع. بحسب المعتقدات الرافدينية فإنَّ القوى الكونية الأولى المسيطرة كانَت مؤنَّثة ومن بينها الإلهة الأم وباقي الآلهات الكبيرات مثل (إينانّا وننماخ وننتو وننخرساج ونامو وتيّامة وننليل وننجال) منذ العصور العراقية الأولى الى وصول الملك حمورابي الى الحكم بحدود القرن الثامن عشر قبل الميلاد، إذ تحولت القوى الإلهية إلى الذكور بزعامة (مردوخ) الإله القومي لبابل.
كانت معظم النساء في بلاد الرافدين مُتعلّمات يلتحقنَ بالمدارسِ ويتعلّمنَ الكتابةَ وعلمَي الحساب والفلك. تمَّ تأليفُ العديد من التراتيل المكتوبة للإلهة (إينانا) من قِبِل نسوة، أبرزهن "إنخدوآنّا"، إبنة الملك سرجون الكدي وكاهنة معبد إله القمر في مدينة أور. كان من حقِّ المرأة الحصول على لقب "أنتو"، وهو لقب خاص بالسلطة الكهنوتية، وكان يمكِّنُ للمرأة أن تدير ثروتها إن لم تكن مرتبطة بكهانة معبد أو قيمومة ضريح.
تُظهر المقابر الملكية في أور أغطية رأس مصنوعة من أوراق الذهب لنسوةٍ عِشنَ في تلك المرحلة التاريخية، وكانت المرأة تمتلكُ أختاما إسطوانية، وطباعتها بمثابة بصمة أو توقيع لتذييل الرسائل وعقود الخدمات وبيع السلع والبضائع والنصوص الاقتصادية الأخرى. وكشفت معظم المشاهد المنقوشة على هذه الأختام حفلات ولائم وأفراح ومشاهد تتعلق بالنساء. وتُظهر العديد من المراسلات والحسابات وسجلات الكتبة أنَّ الرجال كانوا يخصصون رواتب لزوجاتهم ومحظياتهم. ففي مجال الثروة، كان يحقُّ للمرأةِ تملّك الأرض وأن ترثها كذلك، وهذا ما تمَّ معرفته عن طريق اكتشاف العقود التي خُصّصت بموجبها قِطَع أراضٍ للنساء المتزوجات وغير المتزوجات على حدٍّ سواء، وهو ما يؤكِّد على أنَّ حقوق المرأة فعلٌ وتطبيق وليس تنظيرا أو مجرّدَ إشاراتٍ مدوّنة فحسب.
أما الحديث عن المرأةِ والكهنوتية: فقد أصبحت المرأةُ كاهنةً في معابدِ الآلهة، ومنهنَّ مَن أصبحت بمرتبةِ كاهنةٍ عليا "ننتو"، وكان الملوكُ والأمراءُ يتبارونَ في إرسالِ بناتِهِم للخدمةِ في المعبد كجزءٍ من السلطةِ الكهنوتية، وهناك فئات من الكاهنات يُسمح لهنَّ بالزواج، وفي بعض الحالاتِ حملُ الأطفال، لكنَّ فئةً معينة منهنَّ ينذرنَ أنفسهنَّ ويبقينَ عذراوات، فيَرِثنَ الأراضي والممتلكات من عوائلهنَّ ويعشنَ فيها، وليس في أماكن المعبد مثل باقي الكاهنات، ويعاقبُ بشدّةٍ أيُّ رجلٍ يحاولُ انتهاك عفّتهنَّ.
المرأة والسلطةِ:
للنساءِ نصيبٌ في السلطةِ في العراقِ القديم. مارسنَ العديد من الأدوار السياسية الهامة، ومن بينهنَّ بو-آبي (شبعاد) الأميرة في أور في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، والأميرة (شاشا) زوجة أوروكاجينا حاكم دويلة لجش السومرية وصاحبُ الإصلاحاتِ الشهيرة بحدود (٢٣٥٥) قبل الميلاد، وكذلك الأميرة (باو) حاكمةُ مدينةِ كيش القريبة من بابل في بداية الألف الثالث ق.م.
وكما إنَّ للمرأة حقٌّ في أن ترثَ الأرضَ، فقد كان لها الحقُّ في وراثة العرش، لذا فقد ورثت شامورامات (سميراميس) زوجة الملك الآشوري القوي (شمشي) أدد الخامس (حوالي ٨٢٤-٨١١ قبل الميلاد) العرشَ عندما توفِّي زوجها، وحكَمَت نيابةً عن ابنها لسنوات عديدة، وانتصَرَت في العديد من المعارك وتمكَّنَت من ضمِّ أراضٍ واسعةٍ لمملكةِ زوجِها الأصليَّة. أمّا (المرأةُ/ الإلهة): فقد تضمّنَ مجمعُ الآلهةِ العراقية العديدَ من الآلهات اللواتي لعبنَ دوراً مهمّا في تشكّل المعتقدات الدينية والملاحم الأولى في تاريخ البشرية وفي خلق الكون والإنسان، وتأتي في مقدمتهن الإلهة "ننماخ" التي اشتركت مع أنكي في خلق الإنسان، والإلهة "إينانّا" التي كانت مسؤولةً عن الخصبِ والنماء، و"ننليل" سيدة الهواء والفضاء، و"نيسابا" إلهةُ الحبوبِ والكتابة.
أمّا عنوان المرأة (السيدة ـــ نين)، فهو خاصٌ بسيِّدات من المجتمع وبآلهات وزوجات آلهة، كان لهُنَّ القوة والقدرة التي تمكنهنَّ من تسوية وحلِّ النزاعات والبتِّ في المسائل السياسية الهامة، وتوفير الحماية أو سحبها.
لا زواج متعدد
عند الحديث عن المرأة (الزوجة) فقد كان لا يحق للرجل إلا الزواج من امرأةٍ واحدة فقط، فلا توجد أدلةٌ على تعدّد الزوجات، ويتم الزواج عن طريق اتفاقٍ يتضمَّنُ تسليمَ العريس عددا من السّلع والأشياء الثمينة للعروس وأسرتها، ويتمُّ تدوينُ العقدِ على لوحٍ من الطين، لتنتقل المرأة بعد ذلك إلى منزلِ زوجها، وهناك أدلَّةٌ على علاقات خارج الزواج وأدلة على وجود عمليات طلاق بين الأزواج، ومما يلفت النظر أنَّ حالات الارتباط الاجتماعي، ونقصد (الزواج والطلاق) كانت تجري بين الأزواج من دونِ تدخلِ المحاكم.
كانت هناك فئة (المغنيات)، وهذه الفئة من النساء كانت موجودة في المعبدِ والقصر، ففي المعبد تحمل المغنيّات صفة كاهنات مكلفّات بالغناء والموسيقى وترتيل الأناشيد والترانيم وعزف القيثارات، وهذا المنصب يعدُّ مصدرَ فخرٍ للنساء المختارات، حيث كنَّ يتمتعن بالامتيازات والأجور الخاصة، وتوفّر لهنَّ المساكن والملابس المميّزة، كما كانت هناك فئة من البغايا المقدّسات، يمثّلنَ الآلهاتِ في الشعائر، ولا يقتربُ منهنَّ أحد إلا من يدفعُ أكثر من الأثرياء أو أصحاب النفوذ والمناصب السياسية العليا.
المرأة والعمل
كانت ثمة فئة (النسَّاجات والحائكات)، تعمل في معامل نسيج تابعة للمعبد بصفته المؤسسة الرسمية، ودَور النسّاجات واضحٌ في صنع الملابس العسكرية والملابس الكهنوتية والملكيّة كما ملابس العامة، وكنَّ يحظينَ بالتقدير؛ لما يمتلكنَ من مهارة عالية، وقد كان إنتاج النسيج فائضا عن الاحتياجات والمتطلبات في الداخل، فيتمُّ تصدير قسم منه إلى الأقاليم المجاورة، وتجري مقايضته بالسلع والبضائع والأحجار والمعادن غير الموجودة في العراق. كذلك كانت هناك (سيدات الأعمال.
كان للنساء حقٌّ في إدارة الأعمال، ومنها الإشراف على المصالح والمعامل، وكنَّ يمتلكن أراضٍ وعقارات وممتلكات، فقد ورد في ملحمة جلجامش، على سبيل المثال، ذكرُ نادلةٍ اسمها (سيدوري) كانت تمتلك حانةً عند تخومِ أوروك.
المرأة الكاتبة والمبدعة
تُظهرُ السجلات التاريخية والمدونات الأدبية أنَّ بعض النساء كنَّ كاتبات وأديبات، بل إنَّ رعاية الكتابة والتدوين أُنيطت بسيدة هي الآلهة "نيسابا"، فكانت هي السيدة العارفة الملهمة. نيسابا أو نيدابا هي: إلهة سومرية راعيةٌ للكتابة والحسابات، كانت في الأصل إلهة الحبوب، وقد أصبحت ذات أهمية متزايدة في جميع أنحاء بلاد الرافدين؛ بوصفها مرتبطة بالابتهال والبركة والأدعية والرحمة والعطف والمودّة، فكانت تحظى بمكانة مرموقة بين آلهة المجتمع السومري. تطوّرت سلطة نيسابا وهيبتها مع تطوّر الكتابة في بلاد الرافدين حتى كانت تعرف باسم (كاتبة الآلهة وحارسة الحسابات الإلهية والبشرية)، وتُصوَّر في الأختام الإسطوانية من عصرِ فجرِ السلالات السومرية (2900-2400 ق.م)، وهي مرتبطة بأعمال التشييد والبناء خاصة بناء المعالم والمعابد إلي جانب وظيفتها الأدبية. أصبحَتْ نيسابا إلهةَ القراءةِ والكتابةِ وراعية صنعةِ الكتابة. وتوصف بأنها: "امرأةٌ تحملُ قلمَ الذهب وتَدرس لوح الطين الذي يصوّر السماء المرصّعة بالنجوم"، وأنها "السيدة التي أينما حلّت تحلُّ الكتابة"، وغالبا ما تنتهي ألواح وأقراص الكتابة المدرسية بعبارة "الحمد لنيسابا"، فقد كتب أحد الطلبة على قرصٍ مدرسيٍ" أنا خلقُ نيسابا"، بمعنى: إنها علمتني الكتابة والقراءة، وحينما كانت (نيسابا) إلهة الحبوب، كانت موسومةً بعلامةٍ مسمارية تمثِّل (سنبلة)، وعندما أصبحت إلهةَ الكتابة، كانت تمثّل الكلمة المكتوبة واللغة والقراءة والتواصل. تركّزت عبادة نيسابا أساساً في فعلِ الكتابةِ والتأليف، فأصبح اسمها مرادفاً للحكمةِ والتعلّم، وذُكِرَت بانتظام من قبل الكتبة والعلماء والكهنة والفلكيين والرياضيين؛ وذلك نتيجة ما تقدمهُ من إلهام وتوجيه لكلِّ هؤلاء في عملهم، فقد كانت "سيدة الفهم البارعة" و"إلهة الإلهام الإبداعي" و"إلهة العقل الإبداعي" و"المرأة المُخلصة التي تفوقُ الحكمة".
حين وصل الملك حمورابي إلى العرش في بابل في بداية القرن الثامن عشر ق.م، نَجَحَ في هزيمة أعدائه وخلق إمبراطورية واسعة، ولذا فقد شكرَ حمورابي آلهته على هذه الانتصارات عن طريق رفع شأنهم على حساب الآلهة الأخرى، وكانت آلهة حمورابي في الغالب من الذكور، وهو ما أدّى إلى بروز الآلهة الذكور على حساب آلهة الإناث، ففقَدَتْ بذلك آلهة الإناث موقعها في أنحاء بلاد الرافدين كافة، وأصبح الآلهة الذكور الأقوياء المحاربين من أمثال (مردوخ وأشور ونينورتا) أكثر شعبية من الآلهات. وقد حلَّ (نابو) ابن (مردوخ) مكان (نيسابا) بوصفه راعيا للكتابةِ والكَتبة، لكن نيسابا ظلّت تحظى بالتبجيل والتقدير في معابد (نابو) لآلاف السنين، ويتمُّ ذكرها مع نابو بين آلهة الإمبراطورية الآشورية الحديثة (912-612 ق.م). استمرت عبادة ونيسابا في العصور المتأخرة في العراق والشرق الأدنى القديم، فكانت نيسابا لا تزال تُعبد في المنطقة خلال الفترة السلوقية (304-125 ق.م)، وبعد هذا الوقت تراجع تأثيرها، لكنَّ معبدها في الريف العراقي ظلّ قائماً بشكل أو بآخر خلال العصر الساساني (220-637 م)، وفي العصر الأموي مرورا إلى العصر العباسي الثاني بحدود القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي
الكاتب
* د.عبد الأمير الحمداني ، باحث متخصص بالآثار له كتب ومقالات أكاديمية وزير الثقافة العراقي سابقا - بغداد .
Comments powered by CComment