لوحة النساء الراقصات - 5300 ق.م
أزاح فنانو الرسم الحديث، هيئة اللوحة التي نَمذّجوها بأشكال مثلثة او دائرية، بدلاً من شكلها السياقي المربع أو المستطيل المُتعارف عليه. ولوحة النساء الراقصات واحدةً من تلك اللوحات الدائرية، التي رُسمت على المساحة الداخلية المدورة لأحد الصحون الفخارية ا ...
مقالة بقلم الدكتور : زهير صاحب

أزاح فنانو الرسم الحديث، هيئة اللوحة التي نَمذّجوها بأشكال مثلثة او دائرية، بدلاً من شكلها السياقي المربع أو المستطيل المُتعارف عليه. ولوحة النساء الراقصات واحدةً من تلك اللوحات الدائرية، التي رُسمت على المساحة الداخلية المدورة لأحد الصحون الفخارية الجميلة، التي اكتشفت من قبل عالم الآثار الألماني الجنسية (هيرسفلد) Herzfeld في العالم 1911م في مقبرة تعود لدور سامراء من عصر قبل الكتابة (5300 ق.م)، تحت تباليط الدور الإسلامية في سامراء. ومنذ ذلك التاريخ، يًفتخر متحف برلين بعرضها بعدّها واحدة من الإبداعات المتفردة في تاريخ الفن على أرض الرافدين.
بدا نداء الحياة والحرُص على تَجددها، واضحاً في مُدركات انسان عصر قبل الكتابة، ولا سيما في تشخيص مظاهر النماء والخصب والتجدد في حِراك الظواهر، وتقديسه لها في شعائره وممارساته وطقوسه الدينية، بغية كسب معادلة الوجود لصالحه. إلا ان تلك المعادلة الوجودية، كانت تتآكل على مرأى منه يومياً، بفعل ظاهرة الموت الرهيبة، التي أرقّهُ كثيراً (ماهيتها) فاعتقد مُتوهماً أنها من فعل إرادات قوى يصعب التكهن برغباتها. إلا إن تحسبه المُضني لم يستمر طويلاً، إذ وَلدّتً الدورة الإيقاعية السرمدية في تعاقب الظواهر الطبيعية، حيث الليل والنهار والولادة والموت ونمو النباتات وموتها التي لا تتوقف أبداً، ولَدّت في بنية تفكيره أن لا ثبات لمظاهر الوجود، فطالما ان هناك موتاً، فان هناك حياة وصيرورة وجود.
فاكتسبت هذه (الرؤية) شعائر وطقوساً دينية لا حصَرَ لها، وأصبحت عالماً مليئاً بالأسرار والأرواح والقوى، وَجَب على الإنسان تَحمّل ذلك العبء الكبير لاستعطافها بغية نيل حياتهِ بعد الموت، التي كانت معالمها مشابهة تماماً لحياته الأولى. فنشطت طقوسه الجمعية التي كانت بشكل فعاليات متضايفة من الممارسات السحرية وطقوس الدفن وتقديم القرابين، التي حَرصَ على أدائها بتضحيات مادية كبيرة. ومع ذلك فان نتائجها كانت بمثابة الرحلة الى المجهول في داخلية كل اناس شعب عصر قبل الكتابة.
استعارَ الفنان أربعاً من أشكال النسوة، رَسَمهنَ في وضعية الرقص. وَرَتبهّنَ بوضع متصالب في مركز سطح الأناء الداخلي، الأمر الذي قَسّمَ مركز التصميم إلى اربع فضاءات تصويرية متساوية. فيما مَسّرحَ حولهن ثمانٍ من اشكال العقارب بحركة دورانية (عكس عقرب الساعة) على مقربة من حافة الأناء الداخلية. تُوحي حركة الأشكال الدورانية بعلاقة تصميمية متناسبة مع السطح التصويري الدائري الشكل، إذ تمكن الفنان من إبداع نظام تكويني للمشهد المرسوم، يتناسب مع آليات سَرد مقولة الحدث المُصور الذي ربطت فيه ذهنية (المُبدع) بين المادي والروحي. فنحن هنا أمام وضع حركي طقوسي، كان مثابة الحل (الصوري) للكارثة الاجتماعية التي عاشتها الجماعات الزراعية النامية.
أنبنت فكرة التركيب الرمزي في المشهد المرسوم، على منظومتين من الأشكال الرمزية، أدّت أدوارها الدلالية كأضداد في حِراك الفكر الاجتماعي. فخطاب أجساد النسوة الراقص يُعّد تلخيصاً لمظاهر التناسل والخصب والتجدد في الوجود، أما أشكال العقارب التي حَصرت أشكال النسوة في مركز الصورة، فنرجّح اعتبارها رمزاً للموت، إذ شهدت هذه الحقبة نسبة عالية من وفيات الأطفال. فقد تم اكتشاف 134 قبراً لطفل في تل الصوان، بعمر يتراوح بين 4 ــ 8 أشهر، وهو العمر الذي ينام فيه الطفل أو يجلس أو يحبو على الأرض، الأمر الذي جعله ضعيفاً إزاء حركة العقارب السريعة وفعلها السام القاتل، وفي منطقة تشتهر بكثرة العقارب حتى الوقت الحاضر. فنحن هنا إزاء وضع حركي طقوسي خاص جداً، وجدت به ذهنية الفنان المُبدعة حلاً صورياً رمزياً للأزمة الاجتماعية التي عاشتها الجماعة الزراعية في دور سامراء. تلك هي خاصية التركيبات الرمزية في الفنون الرافدينية، التي تقوم على فكرة الصراع بين قوى الحياة وقوى الموت. فالحاكم او لنقل الملك عليه الفتك بالأسود رمز الموت في مشاهد النحت البارز، وﮔلـﮕامش وصديقه أنكيدو قتلا معظم الأسود في مشاهد الأختام الاسطوانية حماية للحيوانات الاليفة (رمز الحياة)، اما الأسود فإنها تفتك دوماً بمفردات الطبيعة من دون استثناء، وهكذا.
يُشفّر المظهر الحركي العنيف للنسوة، وصرخاتهن المتعالية، عن جعل (الفرادة) ذاتية في خصوصية معاناة الروح، للإيحاء بالخطاب الفكري للصورة، الذي وَجَد فعله في إشباع الرغبة لدى بعض النسوة ممن فقدن أطفالهن او انقطعت لديهن دورات الحَمل والولادة. فالصورة بعدّها وثيقة جنائزية، ستؤدي فعلها السحري في العالم الآخر، بالتقاط القادم قبل حدُوثه حرصاً على إحداثهِ مرة اخرى.
تلك هي منظومة من الأعراف المتحركة في الوعي الاجتماعي، التي نجحَ الفنان بإحالتها الى صورة رمزية، تحركت فيها مفاهيم الاعتقاد بالتأثيرات والأفعال، التي ستأتي فاعليتها في استعطاف القوى والأرواح الماورائية، بإيجاد صيرورة اخرى للواقع، وان تخلع عليه طابعاً يجعله وجوداً سعيداً تشيع فيه الروح.
واجه فنانُنا المُبدع الذي ضايف بين فن الرسم وفن الفخار في متحفهِ الخالد، النزعة المادية، ونَشدَ حالة الإنسان الروحية. فلجأ بفعل القصد الى إخضاع الطبيعة، وجعلها نسخة طبق الأصل لاستجاباته الذاتية. ولما كان يبغي الشمولي أكثر من اهتمامه بالخاص والطارئ، فقد سعى الى المناهضة المقصودة للعوالم المرئية، باستخدام اللون المُشّدد والشكل المُبسّط. وحدسَ فكرياً نظاماً تحليلياً تركيبياً لاختراق الظواهر، بغية كشف عما شعَرَ أنه يؤلف جوهر الأشياء، بانتهاج آليات الاختزال والتبسيط وشتى التأويلات الشكلية. بقصد إقصاء المشابهة عن مفردات مشهده، تجانساً مع الهاجس الانفعالي لذاته، فكان سعيه مُفيداً لأبداع (صورة) ذات دلالة أعمق من وجودها الطبيعي المتحرك في مفاهيم الفكر الاجتماعي. إنها تمثلات الوجود الإنساني الأول على أرض الرافدين، وبما يُرضي إرهاصاته التعبيرية.
رُسمت أشكال النسوة بأسلوب تجريدي، إذ حُررت من اشكالها الطبيعية، لتصبح طليقة من صورها الواقعية. بوصفها تركيزاً للأفكار التي أُلصقت بها، فتعالى خطابها الجسدي من حدود الجزئيات إلى انفتاح فضاء الكليات، وتحولت أشكالها من خصائصها الفردية الى الأعمام. بفعل تلك الإزاحة، تجلت الهيئة البشرية ليس بكونها مَحض شكل طبيعي، إنما بعدّها تمثيل الروحي وتعبيره. فسما الفكر إثر ذلك الحِراك، من المسميات المُحددة الدلالات، الى الرموز المنفتحة القراءة والمتعددة المدلولات والحرة الحركة في الفهم الاجتماعي. وذلك مثابة انتقال من التعامل مع المادي المحسوس إلى صورته الذهنية، ومن استخدام الأشياء إلى تداول رموزها، فأتاح هذا (الفعل) الجمالي للفكر الإنساني إلى التعامل مع مفاهيم دالة على وفِرة من التأويلات والدلالات. وذلك يُعدّ الانتصار العظيم في تاريخ الفكر الحضاري، الذي لم يَبلغه الفن الأوربي إلا بعد مرور اكثر من ستة آلاف سنة.
فكّرَ (مالفتش) ألف مرة، قَبلَ أن يُحيل لَيلَهُ الجَهيم الذي تَبدّى له وَحَدُه، إلى شكل مربع أسود على أرضية بيضاء. وجرّبَ (موندريان) المرة تلو الأخرى، حتى أخرَسَ المعنى في شجرته، وأولّها إلى شكل شجرة فقط. اما (كاندنسكي) فقد استغرق سنين عديدة، ليخلّص اشكاله من روابطها الواقعية ليتعالى بها نحو سُلّم الانغام الموسيقية. أما فنان العراق الأول، فشأنه شأن أحفاده من التجريدين الكبار، فبعد أن اختمرت في داخليتهِ، فكرة إبداع شكل رمزي يُعّبرَ عن سعادة الانسانية جمعاء، بعد ان تصالحت ذاته مع الوجود الإنساني بأكمله، فاستوحى من الوضع المتصالب لأجساد نسوته، وحركة شعورهن المتطاير، ليُبدع شكل الصليب المعقوف Swastika، بعد ان مَسحَ عن سطوحه البصرية كل ما يُوحي بشكل المرأة، ولم يُبقي سوى حركة اصابعها الثلاثة، وزوج من خطوط شعرها المتطاير، وذلك كل ما عَلقَ في ذاكرتهِ من تجاربه الأولى. فتحول شكله الى لحن مَحض فقدَ كلماته الأصلية، ليصير قوة سحرية، تعكس حالاً إنسانياً سعيداً.
Comments powered by CComment