د. زهير صاحب

الألواح النذرية السومرية (الألف3 قبل الميلاد) .. أول نماذج الإعلان في الفكر الحضاري

تقييم المستخدم: 4 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتعطيل النجوم
 

الألواح النذرية إبداع سومري (أصيل) وفكرة  تعليق الوثيقة التي هي بمثابة إعلان لمحتوياتها وتجسيداً لأهميتها، إنه فن (الأعلان)الاول في تاريخ الفكر الأنساني بقلم  أ. د. زهير صاحب

 

إن دراسة تحليلية لمنظومة العلاقات الموضوعية والشكلية، التي تنتظم بشكل أنساق، في بنية الإبداعات التشكيلية السومرية، ممثلة بالألواح النذرية. تُظهر ان عملية فهم وتفسير هذه الروائع التشكيلية، توجب الألمام بالمحركات الفكرية المهيمنة في حركة الفكر الأجتماعي. وفي ذلك نوع من تفعيل خاصية المرجع في بنية هذه الألواح، بوصفها إفرازاً من إفرازات البنية الثقافية السومرية، هذه البنية المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها في نفس الآن، كيفّت أنساقاً من الضغوط الفكرية، بفاعلية مغناطيسية، مغنطت الأشكال بروحية أسطورية، فقبلتها الذات السومرية الجمعية دون قهر، بوصفها نظاماً (إعلائياً) للشكل في مثاليتهِ الموقرة.

فالنشاط الفني السومري، جزء لا يتجزأ من إبداعات الأنسان، لبلوغ فهم أعمق للواقع وتطويره. ذلك ان الفن (اللوح النذري) هو ذلك الجزء الهام من تاريخ سومر، الذي إختاره المبدع بعناية لتوثيق الأفكار المجردة. إنه بذاتهِ هو الفكرة، وهو بمثابة تعبير عن صورة التجربة التي بدت واعية بذاتها.

وفي ملمح آخر، فان الشكل (اللوح) يمثل بنية شكلية، فكان التوجه نحو المظاهر التجريدية، والتوقف عند الصور الذهنية غير المادية، القائمة على التنظيم الشكلي المتناغم. فالفنانون السومريون لم يروا ما في الطبيعة بأعينهم، بل بأفكارهم، فهم لم ينسخوا الموضوع كما هو في الواقع، بل يؤولونه نحو الجوهر، فالحقائق لم تكن في حواسهم، بل في حدوسهم الفكرية. ولذلك فرضت مادة الموضوع (النص) تقصّياً للجواهر الفكرية، وبذات الوقت أثارت الاهتمام، بتفعيل (التقنية) وسمات الأشكال التعبيرية.

والألواح النذرية إبداع سومري (أصيل)، وهي بمثابة قطع حجرية ذوات أشكال مهندمة، تكون مربعة أو مستطيلة الشكل في أغلب الأحيان. ومثقوبة في وسطها بثقب دائري أو مربع الشكل. لغرض تعليقها على جدران المعابد. وفكرة الثقب في مركز اللوح تهيمن على فكرته، فهي الأشارة الى فكرة التعليق، تعليق الوثيقة التي هي بمثابة إعلان لمحتوياتها وتجسيداً لأهميتها، إنه فن (الأعلان)الاول في تاريخ الفكر الأنساني.

والألواح النذرية خطاب تواصل في العلاقات والبنى الذهنية المشتركة، التي إرتبطت بقيمها التعبيرية الرمزية بوجود الجماعة. ولعل تضايف خاماتها الحجرية الصلبة مع جدران المعابد الطينية، يؤكد حرص (محتوى) اللوح على تحقيق الديمومة لكينونة المعبد. فالفكرة هنا، هي بمثابة التوثيق لتاريخ المعبد ووقائع الأحداث التاريخية وأعمال الشخصيات، بدلالة تضايف قدسية المعبد، مع فكرة بقاء وصمود اللوح الحجري، أزاء العاتيات من أحداث الزمن.

تعرض الألواح في معظم أمثلتها مشاهد إحتفالية، وأشهر أمثلتها لوح من حجر كلسي من مستوطن خفاجي في ديالى، ومحفوظ في المتحف العراقي حالياً. وبسبب ضيق المساحة التصويرية لسطح اللوح، فقد إكتفى الفنان بتأطير المشهد بحدود ضيقة. ويظهر من فكرة التكوين، أن النحات واعٍ قبلياً لفكرة المشهد، فبعد هندستهِ لسطح اللوح، نظّمهُ هندسياً بشكل ثلاثة حقول أفقية متساوية تماماً. أما آليات سرد الحدث، فيمكن تعرفها من الأسفل إلى الأعلى، ففي الحقل الأول يُعلن الحدث عن وصول شخصية الحاكم، وفي الحقل الذي يليهِ، يُحتفى بالشخصية بأحضار ما تتطلبهُ مائدة الأستقبال، وفي الحقل العلوي، تقع ذروة الحدث، حين يجلس (الحاكم) مقابل شخصية الكاهنة العليا، وهما يرتشفان (نَخبَ) مناسبة سعيدة.

ويمكننا القول بان السمة الغالبة على الزمن، في آليات سرد الحدث في مثل هذه الألواح، هي السمة (اللاواقعية)، لتنسجم مع المظهر اللاواقعي لفضائها، ومع اللاتعيين الذي يُحيط بالأماكن التي تدور فيها الأحداث.

إن اللوح (الوثيقة) هنا يعرض حدثاً كونياً، يرتبط بأحتفالات الزواج المقدس، التي تجري سنوياً لتنشيط مظاهر الطبيعة. فالشخصيات هنا تؤدي (أدواراً) كونية، كونها بمثابة (رموز) مثقلة باشكالات فكرية، بوصفها جزءاً فاعلاً في الممارسات الطقوسية الناشطة في مستوى الوعي الأجتماعي. فالفن في سومر، ينبع من صميم الحياة ذاتها، بعدّهِ نشاطاً إجتماعياً، تنحصر غايته في الحياة أو في الواقع نفسه.

 

 

587-ZUHAR

 

وفي لوح (أور ـ نانشة) حاكم مدينة لكش السومرية، المحفوظ في متحف اللوفر حالياً (شكل 28). تقدم الوثيقة دلالتها من خلال فعل الصورة والنص المكتوب، وكلاهما تم عرضه على مساحة تصويرية صغيرة. فقد قُسم سطح اللوح الصغير إلى حقلين، حيث يهيمن حجم الحاكم في الحقل العلوي على مدلول الحدث، وهو يؤشر نقطة البداية لمشروع بناء المعبد، بدلالة (سلة) البناء على راسهِ، وفي الحقل السفلي يحتفل (أور ـ نانشة) بأنتهاء بناء المعبد.

وأزاء تغييب المكان والزمان في نص (أورـ نانشة) الأسطوري، يصعب حساب الزمن تبعاً لتسلسل الأيام أو السنين، فلا يمكن فهمهُ فهماً صحيحاً، إلا من خلال نتائجهِ.

فنحن نجهل مثلاً كم من الوقت إستغرق بناء المعبد، وكم من الوقت أيضاً إستغرق الأحتفال، فالأمر مرهون بنتائج الأحداث فقط، في بنية السرد النصية. فخاصية الزمن في آليات سرد الأحداث على سطوح هذه الألواح، تُؤدي في معظم الأحيان، إلى تفعيل حالات سايكولوجية متنوعة، فهي لا تقدم للمتلقي، أي تحديد لأية واقعة أو أي حدث من الناحية التأريخية. وتلك خصيصة يؤكدها الطابع الغامض والشمولي في بنيتها الأسطورية. فكل شيء يدور في إطار الحكم والتأمل والمعاناة.

ومن هنا فأن الأنسان في سومر، لم يفلح نهائياً في جعل نفسهِ موضوعاً علمياً لذاتهِ، فحاجتهِ السايكولوجية للسمو على فوضى التجربة والحقائق المتناقضة، أدت بهِ إلى البحث عن فرضيات ميتافيزيقية قد توضح له مشاكلهِ الفكرية الملّحة. فالأنسان إذا ما تناول موضوع ذاتهِ، لن يَحيد عن التأمل حتى يومنا هذا.

 

587-ZUHARAA

 

وفي لوح توقير الألهة (ننخرساك)، إلهة النبات والخضرة. يظهر متعبد عارٍ، يسكب من إبريق فخاري ماءاً مقدساً، على حزمة من نبات، وقد نمت في إناء فخاري أمام (الألهة) التي إحتلت بحجمها المهيمن نصف المشهد الممثل. وأهمية هذا المشهد تكمن في ان الأنسان قد تطاول لأول مرة، من أن يُمثل الآلهة بأشكال بشرية. ومع ذلك فان شكل (ننخرساك)، يسمو في نظامهِ على صورة البشر الفانية. إذ نمت من كتفيها حزم من الأغصان والأوراق النباتية. ففي الفضاءآت الأسطورية، تلعب الشخصيات دوراً يقع في دلالتهِ في منطقة ما بعد النص، في منطقة المُتخَيّل. فالاسطورة ـ اللوح النذري ـ لا تستند الى شخصية (الألهة)، إلا بمقدار العلاقة التي تقيمها شخصيتها مع اللاواقع.

وتدلل أشكال أنصاف الدوائر الحرشفية، إلى أن الحدث ـ المكان ـ قد جرى في منطقة جبلية. فالمكان هنا مغيب، ليس حاضراً كما هو في الوجود المُتعَيّن. ففي الأحداث الاسطورية من هذا النوع، تلعب الأمكنة دوراً مموهاً، يتوقف على مقدار العلاقة التي تعقدها مع اللاواقع. فشكل الألهة (ننخرساك) ـ الأم العظمى ـ قد تعدى محدودية الصورة الى اللاتشخيص، ليصبح رمزاً كونياً. فهو الطبيعة بشموليتها وكونيتها العامة.

ويعرض لوح الكاتب السومري (دودو) منظومة قوى رمزية، تصنف في المشهد، على أنها تنتمي إلى فئتين متصارعتين، هما قوة الحياة وقوة الموت. ففي يسار اللوح يهيمن الكاتب بحركتهِ التعبدية المعروفة على الفضاء التصويري، وفي أعلى اللوح يُحكم (الإله) الحامي لقوة الحياة (سوكورو) قبضتهُ على أسدين متدابرين، وقد مُثـِّلَ في تركيبهِ الاسطوري الهجين المعروف، برأس أسد وجسم طائر عملاق، في حين يضطجع في الأسفل عجل صغير وهو على وشك النهوض.

فالأشياء هنا وكذلك الظواهر، أكثر تعقيداً وغرابةً مما هي عليهِ في الواقع. ذلك أن الكاتب (دودو) بحركتهِ التعبدية، يؤدي دور (الرمز) الدائم، لذلك الكائن البشري الباحث عن سر الحياة. وبتجريد الكاتب (دودو) عن حدود الشخصية، فأنه يمثل دوراً لا زمانياً ولا مكانياً أيضاً، أي إنه رمز مناسب لكل الأماكن ولكل الأزمنة. فقد مَرَّ عِبرَ الواقع إلى التاريخ، الذي إختاره، ليحوّله بدوره إلى كلام أو حديث دائم.

عن موقع المثقف ( من هنا ) . 

 

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker