الواسطي والحرية في التعبير التشكيلي
أمل بورتر
مقدمة
أطلقت صفة "الفن الإسلامي " على الفنون التي أنتجت في بقاع اوائل الدول التي تبنت الإسلام كدين ،لكنني أفضل أن تسمى الفنون المتأثرة بالفكر والفلسفة الإسلامية، ان تعبير الفن الإسلامي مفهوم مضمخ بفكر استشراقي بكل ابعاد الاستشراق من استحواذ وتوسع وهيمنة ، ظهرت جذورهذه العبارة في القرنين الأخيرين، حيث روجه الفكر الغربي كنوع من العزلة عن الفنون الدارجة والزاخرة الموغلة في القدم في المناطق الشرق أوسطية برمتها ، في حين أن الفن المتأثر بالفكر والفلسفة الإسلامية هو نتاج شعوب تلك المنطقة التي تقبلت الاسلام كدين اخر وسط بقية الاديان السائدة فيها حينذاك، ثم لاحقا تبنت او اتخذت من الإسلام دينًا، ويظهر ذلك واضح في نتاجات تلك الفترات والتي تلتها لاحقا ، اذ انها تتضمن وتحتوي و بوضوح على نفحات من الميراث الحضاري وتلاقح بالقديم بكل ابعاده لشعوب تلك المنطقة مما قاد هذا الى نماء وخصوبة في النتاجات ،كما ان مغزى ما انتج واساليبه ومواضعه امتزجت بلباقة مع خصوصية فنية مرهفة ، يسندها روحيا الفكر والفلسفة الاسلامية متزاوجة مع الميراث المحلي السائد ،هذا الامتزاج هو الذي وحد و قارب كثيرًا بين الجديد والقديم في نتاجاتهم وابداعتهم الفنية المتعددة وحفز مجتمعاته على نماء كل اصعدتها الاجتماعية والانتاجية من فنية او حرفية وغيرها وهي التي بالتالي كانت وبقيت تستلهم الفكر الاسلامي والفلسفة الاسلامية .
الملامح التي اتسم بها الفن التشكيلي في العراق، سوريا، مصر والمتأثر بالفكر الإسلامي الخ.
- أظهر الفنان بكل وضوح التصاقه بالأرض وصور الطبيعة من حيوان ونبات.
- وكنتيجة لملاحظته للطبيعة اكتسب نظرة مدققة واقعية.
- رغم أن نظرته واقعية أرضية إلا أنه أضفى عليها بعدًا كونيًا.
- نفَّذ أعماله بأسلوب مبسط تجريدي.
- استعمل الخط الممتد تأكيدًا على امتداد الحياة الحالية نحو الحياة الأخرى اهتم بالثوابت من الأشياء ولم يهتم بالمتغيرات مثل الغيوم والظلال، ولم يعر أهمية للمنظور الذي ظهر لاحقًا في فنون الدنيا، ولكنه عالجه من خلال استخدامات اللون والحجوم بذكاء ولباقة.
- اهتم بحركة النجوم والكواكب، واهتم بالهندسة وبالرياضيات؛ لأنها عماد حياته، فبواسطتها يعرف مواقيت الصلاة واتجاه القبلة وأيام الصوم وحركة القمر وتأثيرها على المد والجزر والإبحار.
- استعمل المفردات المحلية المتعارف عليها مثل زهرة اللوتس في مصر أو سعف النخيل في العراق ...الخ
- كان منحاه في مجتمعات البيئة الزراعية مركزًا على استعمال المربعات والمحاور الرأسية والأفقية.
- أما في البيئة البحرية-الصحراوية نجده يركز على الخطوط المتعرجة والدوامات
- استعمال الكتابات وتسنى له أن ينقل الخط من هيئة الدلالات الرمزية كما هي الكتابة لدى كل الثقافات إلى فن قائم بذاته ينفذ لتعزيز ودعم الفكرة التشكيلية (support).
الفن المتأثر بالفكر الإسلامي يصور المطلق من خلال المعطيات الدينية المحضة التالية، والتي يركز عليها الدين الإسلامي:
- تكرار لفظ الجلالة.
- التأكيد على الجمال والزينة كنعم من الله.
- التأكيد على العلم والحث عليه.
- ترغيب العمل وتكريس إتقان الصنعة والعمل وهناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد ذلك.
ابتدع الفنان التشكيلي المسلم ما يلي كثيمة لعمله الفني
- تفكيك العناصر.
- توحيد العناصر أي تحويلها إلى وحدة تشكيلية.
- تكرار العناصر.
- تسطيح العناصر.
- تركيز على الإيقاع المتناغم للمفردة التشكيلية.
- إلغاء الفراغ؛ لأن الفراغ من أعمال الشيطان.
المفردات التي يتم تفكيكها وتبسيطها
الواسطي وفنون القرن السابع الهجري
شهد هذا القرن الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي في أغلب الدول العربية، فحينها هُزم الصليبيون والمغول، وبُنيت أركان ثلاثة دول هي دولة الموحدين في المغرب، والأيوبيين في مصر، والعباسيين الفترة الثانية (المتأخرة) تحت خلافة الناصر لدين الله، ثم خلفه المستنصر بالله. وقد وجدت نسخة باريس مثلًا من مخطوطة الواسطي لمقامات الحريري مؤرخة في عام 1237 أنجزها إبان حكم هذا الخليفة، ويجدر بنا هنا أن نذكر ولا نغفل دولة الاتابكة في الموصل وبدر الدين لؤلؤة الرجل الأمي الذي اهتم بالعلم.
من أهم معالم هذه الفترة
استحواذ الذوق الفني على المنتوج الحرفي، وانشغال المبدع في إدخال مفردات فنية على درجة عالية من الاستطيقيا على مجمل النتاجات والأدوات المستخدمة يوميًا، ونضوج العناصر الفنية في العمارة وبداية فترة الازدهار لها بوعي أو دونه من قبل الصناع (عندما تنضج العمارة يتبعها نمو عضوي لكثير من المتطلبات الملازمة لها مثل الأقمشة للستائر، الأثاث، الزجاج، الأبواب، السجاد والخ إذ القائمة تطول). وتعود إلى تلك الحقبة أجمل معالم العمارة الإسلامية مثل بناء مدينة مراكش للموحدين، وظهر عنصر القلعة حل محل الرباط الإسلامي، وتطورت بعض العناصر الهيكلية في العمارة التي لم تصلنا ونجدها في بعض رسومات الرحالة الغربيين في القرن السابع والثامن عشر في بغداد ةالقاهرة ، ومن بقايا تلك الحقبة نجد قبة بناء الإمام الشافعي في مصر والمدرسة الشرابية (القصر العباسي) بسبب استعمالها لمسقط الإيوانات المتصالبة الأربعة في القصر والمدرسة على حد سواء، وكذلك الحال ما نجده في المدرسة المستنصرية ومكتبتها.
في هذه الفترة كان هناك حرية في التنقل بين الدويلات الإسلامية المختلفة وكذلك استدعاء الكثير من الحرفيين أو العلماء الخ، وكانت معاهد العلم يأمها الجميع، وظهرت حركة ثقافية وتأليف مثل ما تركه ياقوت الحموي وابن الأثير وابن الرزاز الجزري مؤلف كتاب النافع في صناعة الحيل (الميكانيك) وترجمات لكتب الطب وغيرها، ويحيى الواسطي صاحب مدرسة بغداد للتزويق كما كان يطلق على الفنون التشكيلية.
عرفت فنون التزويق في الحضارة السابقة للإسلامية حتى حين ظهور المسيحية، فكانت تشجع هذه الفنون إلا في الحقبة الايقونية للفن المسيحي البيزنطي، فقد ظهر بعض التحفظ في الاستخدامات التشكيلية والتصوير وبنفس هذا الوقت ظهر الإسلام، وربما يكون هذا سببًا كافيًا لأن ينأى الفنان المسلم عن تزويق الكتب الدينية مقتصرًا على تزويق الكتب الدنيوية. وأقدم مخطوطة كاملة مزوقة أو منمنمة هو كتاب صور الكواكب لعبد الرحمن الصوفي مؤرخة سنة 400 وموجودة في أكسفورد، وأقدم كتاب مزوق ومنمنم بأسلوب الواسطي هو كتاب الترياق لجالينوس محفوظ في باريس.
استمرت ممارسة ذلك العرف الفني في الثقافة الإسلامية ولا سيما في كتب الطب والفلك والفلسفة والتاريخ منذ بداية العصر الأموي،ثم سمى هذا التقليد ووصل الذروة إبان حكم المأمون العباسي ولا سيما في مادون في دار حكمة بغداد التي تكرس خلالها ذلك الضرب من التعبير الفني.
المقامات
إن الحريري كتب مقاماته على غرار مقامات بديع الزمان، وبناءً على طلب من الوزير شرف الدين بن نصر وزير الخليفة المسترشد حينها وعمل في ديوانه كصاحب خبر، وعدد المقامات 50 مقامة تتمحور حول شخصية السروجي أحد طلاب الحريري واسمه المطهر ابن سلام وهو لغوي من البصرة، أما شخصية الحارث فهي تمثل الحريري ذاته.
روى الحريري المقامات بكثير من الدقة والمصداقية وبروح مرحة تخلو من الوعظ المباشر الجاف إلا أن الوصف التفصيلي جاء موجزًا ومقتضبًا. أما الواسطي فقد صورها بشكل تشكيلي تفصيلي أقرب إلى الواقع وبكل تفاصيله مستخدمًا كافة التقنيات التي كان يحذقها وبمهارة فائقة رابطًا الزمان بالمكان بشكل واضح.
الواسطي ابتدع أسلوبًا خاصًا به، هذا لا يعني إلغاء تأثره بالتجارب السابقة، ولكن تطويره لتلك التجارب جاء واضحًا ومتميزًا كما وأنه اهتم بالتعبير رغم أن الكثير من مؤرخي الفن يقولون بمحدوية تصوير الواسطي للوجه الإنساني واستخداماته التعبيرية إلا أنني بالحقيقة أخالفهم الرأي.
إن الشخصيات التي رسمها الواسطي وأغلبها من الذكور تبدو لنا منشغلة بأمور الحياة اليومية بكل ما فيها من مظاهر، ولكن مع هذا نجد أن الواسطي قد أعطى أهمية كبيرة للشخصيات التي تنصت وتستمع أو تراقب شيئًا ما، وهذه الشخصيات ترتسم على وجهها تعابير واضحة. ويقال إن الواسطي رسم الوجوه إما بشكلها الجانبي أو ثلاثة أرباع الوجه، ولكن هناك وجوه مرسومة من الأمام والتعابير واضحة عليها. رغم سيطرة شخصية الرجل على لوحات الواسطي إلا أنه لم يغفل المرأة بل صورها وركّز على وجهها المعبر وجسمها باستداراته.
إن المناظر الطبيعة لم تكن هي الموضوع الإنشائي، بل جاءت ضمن سياق المادة، إذ أن المواضيع عامة كانت تصور الحياة اليومية بكل أبعادها، فلوحات الواسطي فضلًا عن قيمتها الفنية الجمالية تحمل بعدًا تسجيليًا وثائقيا .
صور الواسطي الطبيعة فكان أحيانًا كثيرة ينقل عنها حرفيًا وأحيانًا أخرى يحورها ويختزلها أو يجردها وعلى الأغلب كان يترك لخياله العنان في تصوير أي منظر طبيعي، ولكن من وجهة نظره كونها تعزيزًا وتكريسًا للإنشاء التصويري.
يقول هيغل إن تغريد البلبل أجمل ألف مرة من صوت إنسان يقلد البلبل، ولكن اللحن الموسيقى الذي يستوحى من تغريد البلبل هو العمل الفني الحقيقي، هذا يعني أن الفن المستوحى من الطبيعة هو أرفع شأنًا؛ لأنه نابع عن خلجات الفنان وبذلك يكون العمل الفني انعكاسًا لفكره وروحه.
رسوم الواسطي لا تقلد الطبيعة، بل تستعير الكثير من مفرداتها من الطبيعة، ولكن الواسطي يوظفها بشكل مقنع وكأنها جزء من المشهد، ولم يهتم بالمقاييس الحقيقية للمفردات بل كبرها وصغرها لتناسب الموضوع والإطار العام للوحة.
صور الواسطي الحياة اليومية من دون مجاملة أو تحيز، إذ أن لوحاته تعكس مجالس الأنس والطرب والخمر ومجالس القضاة وقوافل الحج، صور الأشكال الآدمية ولم يأبه للمحرمات الدينية وتطرق بجراءة فائقة لها.
الوجوه واضحة رغم المحرمات الدينيةوالتطلع الى الامام باندفاع بين الحيوان والانسان
كان الواسطي يقرأ الواقع كما هو لا كما يتمناه، ولم يكن أحادي التفكير أو قصير النفس، بل سار بمنهجية التحدي والمواجهة، وعرض الواقع بموضوعية بما يوسم اليوم "بالواقعية".
حاول الواسطي تصوير البعد الثالث بوهم المشاهد وذلك بتغيير الألوان من الفاتح إلى الداكن، واختلاف الأحجام من الكبير إلى الصغير، كما وأن باستعماله للون كان يحاول تتبع نفس الحدث، ويكسر الملل والرتابة ويعبر عن روحية متفردة للواقعة، وألوانه تصور الواقع وإذا ما استعمل الألوان البراقة، فكان يختارها بكثير من الدقة للمحافظة على توازن الأشكال بعكس ما نرى في المنمنمات الآسيوية التي تطغي عليها الألوان الصاخبة والحركات العشوائية للاشكال الحية والجامدة التي في الغالب تعوم في فضاء اللوحة.
شخوص الواسطي ثابتة، مستقرة، متوازنة تستند على الأرض بكل ثقة وصلابة، ويؤكد من خلالها أن تلك الشخوص تستند على أرض معينة محددة معرفة، وذلك برسم خط الأرض وما يمثل ذلك الخط من مفردات بيئوية من تشكيل جذاب مدروس للشوك أو رسم شجرة برتقال أو جمل يحرك قائمته أو حصان قد مد رأسه إلى الأمام يتطلع قدمًا إلى الرحيل مشاركًا الحجيج رغبتهم العارمة للذهاب إلى بيت الله كما في صورة قافلة الحج (لصورة الحج) أو صورة الجمال ونلاحظ هنا أن في المنمنمات الهندية والفارسية الشخوص عائمة في الفضاء وتطوف في أرجاء اللوحة كما اوضحت سابقا .
المنمنمات الفارسية والهندية وكل شيء عائم في فضاء اللوحة مع صغر حجم الانسان كما في الواقع اذ لا مبالغة او تاكيد على اهميته
أعطى الواسطي أهمية لشخوصه المجسدة أكثر من الخلفيات، وجاءت أحجامها لا تتناسب مع البنايات أو الحيوانات والأشجار في الخلفية، إذ أن الإنسان أكبر وأضخم وأهم وهو المحور الأساس، ولم يهتم الواسطي بالنسب، إذ أن تصوير الفكرة المتمحورة على الشخصية الآدمية أهم بكثير من الخلفية المعمارية حجمًا فقط وفي عرض الإنسان بهذا الحجم فيه التحدى والمجابهة لما عرف بالمحرمات .
المبالغة في حجم الانسان بالنسبة للحيوان الوجوه ليست جانبية رسم من مدرسة بغداد للواسطي
ورغم تنفيذه الخلفيات إن كانت طبيعية أو معمارية بحجم أصغر إلا أنه أعطاها كل التفاصيل التي تستوجبها من تبيان الحجوم والهيكل البنائي وطراز البناء وعناصره المميزة وتبيان خامات البناء المستخدمة، مع انتباه للنسب الجمالية في التصميم. وقد تحذلق في تبيان عدد الطوابق ومواضع الشرفات وشكل البوائك القائمة على أعمدة، حاول أن يبين من خلالها تفاصيل حتى تاج العمود الناقوسي كما في المقامة الواسطية.
فضلًا عن كل ما تقدم، هناك أفكار ريادية وأسلوب متفرد للواسطي وظف فيه ما يميزه عن غيره من المصورين في النقاط التالية:
- أدخل الفراغ.
- ألغى الإطار التقليدي.
- أكد على خط الأرض.
- جعل شخوص المواضيع من حيوان أو إنسان أو نبات ترتكز على الأرض.
- نفذ الكتابات بشكل مختلف ومتحرر وبعيد عما كان متعارفًا عليه.
تناولت المقامات المواضيع الحياتية اليومية بما ما فيها من صدق وحساسة ومن دون مجاملة أو تحيز أو مساومة لا على حساب النص أو على حساب العمل التشكيلي، ولم تقف العوائق الدينية أمام الواسطي ورسم المرأة كما الرجل بكل وعي وحرية.
مواضيع الرقص والموسيقى والخمر واجسام النساء وطيات الملابس
وهنا نرصد رسمه للمرأة التي ترعى الجمال، حيث نجد تكورات جسمها تبدو واضحة، ورك وعجز كبيرة، ويد رشيقة، وأصابع ناعمة، وخدود ملونة، وزلف أسود، يظهر بوضوح وعيون مكحلة كما وأن الأكمام واسعة عريضة، لا أعتقد بأنها تخفي الكثير ولا شك لدي بأن المرأة ترتدي ثوبًا تحت الفستان بالأكمام الواسعة، وكلما رسم المرأة حرص الواسطي على إبراز تكورات جسمها بوضوح.
وقد نلمس الجمال الذي كرسه بقامة المرأة، وهي تؤكد الأهمية التي وهبها للإنسان، أما صورة الجمال المصطفة المتكررة، فقد توخى فيها أن لا يقع في مطب التكرار ويتجنب الرتابة، حيث نجد ستة ظهور وستة أعناق ورؤوس، ورامَ من عملية تكرار السيقان إلى شد انتباه المشاهد حول أهمية الحركة ورسم رأسين لجملين يأكلان العشب كل واحد منهم بلون مختلف، وقسم منها بفم مفتوح علامة الرغبة بالأكل أو ربما المضغ، كما وأن التعدد اللوني للجمال بدا واضحًا لكسر الملل ولإضفاء الواقعية على العمل.
أما صلابة الأرض وهيئة الراعية وثبات أرجل الجمال على الأرض يوحي بالثقة والاطمئنان.
سمفونية الجمال ووضح جسم المراة والمبالغة بحجمها بالنسبة للجمال تاكيدا لتحديات الواسطي للمحضورات والافريز على الارض
والمنظر يوحي لنا بالصدق وهو في الواقع أبعد ما يكون عن الحقيقة ولا يستطيع أحد أن يؤكد بأنه قد شاهد جمالًا مصطفة بهذا الشكل المرتب المنسق، فكلنا قد مرت بنا الجمال ونعرف أنها تسيربتباعد خلف بعضها لا جنب بعضها حتى وهي ترعى فهي ترعى متفرقة، فهنا عرف الواسطي كيفية خداع وإقناع المشاهد.قول بيكاسو
المقامة العمانية اذ انها من المقامات التي لها أهمية قصوى في حركة الفن التشكيلي عالميًا.
"إن موضوع الولادة الفعلية للجنين وخروجه من جوف أهمه موضوع حساس للغاية، ولم يتطرق له الفن الأكاديمي الأوربي بشكل مباشر، ولكن في كثير من الحضارات غير الأوربية، أو حتى ما قبل التاريخ نجد بأن لهذا الموضوع أهمية خاصة في تراث تلك الحضارات منها الحضارات ما قبل الكلومبية (كولومبس*) بالنسبة إلى أمريكا الجنوبية من الازتك والمايا وغيرها كذلك بالنسبة إلى حضارات جنوب شرق المحيط الهادئ، إما إنسان ما قبل التاريخ، فلقد صور الإنسان والحيوانات وهي تلد صغارها كما وأن طريقة دفنه لموتاه كانت تدل على العودة إلى رحم الأم، وذلك بوضع الجثة بجرة شبيهة الشكل برحم المرأة وبوضعية الجسم كما هو في أحشاء الأم، وربما كانت فريدا كاهلوا أول امرأة فنانة في العصر الحديث تتطرق إلى هذا الموضوع، ولكنها استندت على المايا وهو التراث المكسيكي الما قبل الكولومبي (لوحة فريدا كاهلوا)".
ولادة الطفل من الفترة الماقبلكلومبية امريكا الجنوبية حضارات المايا والازتك
فريدا كاهلو اول فنانة ترسم هذا الموضوع في الفترة الحديثة
في حضارات جنوب شرق آسيا وفي الهند خاصة، المحضورات التي نتجنبها هنا، لها أبعاد وخطاب مختلف، التطرق إلى مواضيع الجنس والولادة مباحة ولا حرج عليها دينيًا أو اجتماعيًا، ولكن مع هذا لم تصور المواضيع بحرية إلا في مخطوطات الكاماسوترا ولم تصورساعات ولادة الطفل تحديدا .
ساعة المخاض والاولدة للطفل ووضوح جسم المراة مع بقية التفاصيل كما في النص
ولكن الواسطي عند تصويره للمرأة في حالة الوضع رغم التفاصيل الدقيقة، لم يجعلنا نشعر بأن الموضع مخجل أو يثير دوافع جنسية، بل نجد أن ذلك مجرد حدث طبيعي لا حرج عليه مطلقًا، تشريح جسم المرأة صحيح والمبالغة في حجمها والتأكيد على التكورات يذكرنا بتماثيل الآلهة الأم لفترات ما قبل التاريخ أو بما يسمى الفنون البدائية، ووضعية جلوسها كانت تستخدم في العراق إلى عدة عقود ماضية في حالة الوضع قبل تطور ووصول الطب الحديث.
الرجل أو الملك حاضر ولم يتغيب، موجود في نفس المكان ربما في غرفة أعلى، إلا أنه موجود وليس خارج المكان أو الزمان، وكذلك مساعديه إلا أنهم أصغر حجمًا لتقليل الأهمية، ولخداعنا بالمنظور الذي يقنعنا ببعدهم بعض الشيء جعل حجم المرأة كبيرًا وكذلك القابلة والخادمات أو الوصيفات.
فسر بعضهم على أن شخصيات هذه المقامة من الهنود، والسبب أن الواسطي اختار لهم السحنة الداكنة ومن طريقة لف الشعر، وبما أن المرأة هندية فلا حرج ديني اجتماعي من تصويرها بهذا الشكل، ولكنني أقبل هذا التفسير بكثير من الحذر، فإن عمان تعني كل الجزر المحيطة بالمنطقة وكل المناطق التي تقع على المحيط وبحر العرب والخليج إلى اليمن وهذه منطقة عربية متغللة فيها أعراق وقوميات مختلفة بحكم موقعها الجغرافي وسحنة أهل عمان داكنة، وإلى الآن هناك قوميات رئيسة تشكل بنية المجتمع العماني منها الزنجبارية والبلوشية واللواتية والعربية فما ذكر عن اجنبية المراة تبرير غير منطقي او واقعي .
في هذة المقامة الزمان والمكان ارتبطا بشكل عضوي حي، زمان ولادة الطفل ومكان الولادة اتصال وثيق بين البعدين، ونجد السروجي على يسار اللوحة وهو يكتب تعويذته السحرية لتعجيل وتسهيل المخاض و الولادة، والحارث في الجهة الأخرى ومن لون بشرتهما نستطيع تمييزهما.
الواسطي عمم هذا الشكل المعماري في أغلب ما نفذ من أعمال تشير إلى بيت أو حانة، ولكنه أعطى بعض الخصوصية، فنجد أن السروجي قد وضع قدمه على ما يشبه الدكة، وأن إحدى الوصيفات تحمل بيدها مبخرة، والبخور مادة أساسية في حياة الإنسان العماني، ولا يخلو بيت منها أبدًا. ونلاحظ أن المرأة وحتى وهي في ساعة الولادة الصعبة ما زالت ترتدي حليها حول رقبتها أو معصمها وكاحلها وهذا ملاحظ في المرأة العمانية.
عاد الواسطي إلى رسم الهالات، فلقد ألغيت الهالات في بدايات الدعوة الإسلامية، ولكنها بعد فترة قصيرة عادت للظهور وظهرت على النقود والمسكوكات، ولكنها جردت من أهميتها إذ تبدو وكأنها مجرد دائرة حول الرأس إلا أن الواسطي أعادها، ولكن بكثير من الحذر ولم يستعملها اعتباطًا أو يقحمها بل اختار الموضوع المناسب لها بذكاء وتأنٍ، أظهر الواسطي خط الأرض الذي تجلس عليه المرأة وهو من الطابوق، إذ ربما الولادة تجري في حمام وهذا شيء شائع أيضًا.
الهالات لأشخاص في جو اجتماعي صرف
وأما في حالة هيجان البحر، فعند تصوير المكان الباخرة والبحارة والأرض، نجد جمعًا بين البيئة البحرية والأرض اليابسة في فترة زمنية واحدة والباخرة والتي تشبه البواخر العمانية الحالية راسية على جزيرة نباتاتها شبه استوائية والأسماك نستطيع بسهولة تصنفيها.
الصورة الأخرى والتي هي واجهة البيت، رغم أن هذه الواجهة متكررة واحيانا متشابهة في كثير من أعمال الواسطي إلا أنه في المقامة العمانية هذه منحها بعض الخصوصية في جعل العبيد إما أفارقة أو هنود طريقة، بطريقة جلوسهم على دكة البيت ووضع الساقين ممارسة هندية بحتة، وكذلك لفة الرأس أو العمامة تؤكد ذلك مما يدل على علم الواسطي بمدى تغلغل الهنود في عمان وخاصة بصفة أجراء وعمال وهذا التغلغل ما زال ساريًا.
استقراءات حول إلهامات الواسطي
نعرف أن الواسطي نشأ وعاش في العراق، ونستطيع أن نقول لا بد أنه قد خبر عن قرب وجود الحضارات السابقة، ولا بد أنه مر بإرهاصات تفاعله مع التراث الموجود أصلًا، وكان هذا التراث هو من المعطيات الأولية التي غذت فيه الإحساس بالجمال أو إدراكه بما نسميه الاستطيقا. وهذه الإرهاصات عززها القرب من هذا النشاط الحضاري بهذا الكم الهائل الذي لا بد أنه قد ساهم في تنوير وإغناء فكر الواسطي. إلا أننا الان وبعد مرور هذا الزمن الطويل على حضارات وادي الرافدين نستطيع أن نحفر في أي موقع ليس عميقًا جدًا، فسنجد لقى أثرية من فترات سابقة، وإذا عدنا بالوراء إلى زمن الواسطي فلا بد أن العراق كان لا زال مسرحًا غنيًا باللقى الأثرية القديمة، وأن مدنًا من نينوى وبابل والحضر وكل الحضارة السومرية العريقة في الجنوب ربما كانت أجزاء كبيرة منها مطمورة إلا أن بعضًا من أجزائها لا بد أنها كانت شاخصة أو قريبة من الذاكرة، وتورد في الأحاديث شفاها على الأقل أو حتى مكوث بقايا من مخطوطات مصورة قديمة كانت متوفرة بشكل من الأشكال وخاصة تلك التي جاءت من حضارات ولدت ونمت في العراق والدول المجاورة، رغم علمنا بأنه حتى في الجزيرة العربية بجغرافيتها الشاسعة وتاريخها المتعدد الهويات، وفي فترات زمنية مختلفة كانت هناك لقى تمثل الجنس البشري ورغم أن أغلبها اتسم بالفجاجة من الناحية الفنية، إذ أنها كانت تنزع نوعًا ما نحو التبسيط، إذ أن ملامحها كانت مبسطة لتدل على كائن حي أيًا كان وكانت القيمة المأتمية أو الدينية لهذه الأشكال البشرية أهم بكثير من القيمة الواقعية لشكل الإنسان المعني.
تمثال ابو بنت دميون وطيات الثياب التي تميز فترة مملكة الحضر
كل هذه المعطيات لا بد أن يكون لها أثر في نتاج الواسطي، ولن أتكلم بلغة العصر وأقول إنه سليل حضارة سومر وعن الموروثات الجينية، استعمل الواسطي الافريز الذي كان دائمًا من النبات وهذا الافريز نراه كثيرًا في الأختام الأسطوانية وبعض المنحوتات الآشورية.
يبقى الانسان اكبر من كل ما يحيطه، كما هنا في شجرة البرتقال او ربما الرمان ، مع الافريز على الارض بدلالته في حضارة وادي الرافدين القديمة وما يؤطر العمل كله بالنباتات
كما أن الحركة اللامتناهيه للخط (التي اتسم بها الفن المتأثر بالفكر الإسلامي لا تظهر بشكلها المعهود وهو حركة الخط المتواصلة، ولكنها تظهر واضحة في تصوير طيات الملابس وكان القماش أو الملبس في حركة دائمة وهذه تعود بنا إلى تماثيل الحضر.
النص الكتابي متمم للوحة والمبالغة بحجم الاسنان قياسا بالعمارة ودولاب الماء
أو كذلك التفاف غصن أو تكرر الأشواك كلها تشير إلى استمرارية الخط، ولكن الواسطي لم يلتزم بالثوابت من القواعد في تصوير حركة الخط اللامتناهية، بل خرج عنها مقتبسًا من تراث الماضي في وادي الرافدين ومتأثرًا بحضارات مجاورة، وصب كل هذه المعطيات بقالب خاص به، كما وأنه تلاعب بالخط (لا أقصد كتابة) وفقًا لهواه وخدمة في التعبير عن الموضوع، فنجد الخط الغليظ والخط الرفيع والانسيابي والمقطوع عند حدود معينة.
الخط كجزء من العمل التشكيلي وغير منفصل عنه
كما ولا يجب أن نغفل أهمية الشعر في الوجدان العربي، وأنني لا أحتاج إلى براهين لأقول إن الواسطي كان يتمتع بالشعر، لذا نجد أن التناغم والتوازن والإيقاع كمعطيات واضحة جدًا في أعمال الواسطي، وهذا يبدو بشكل جلي في الحركة، كما نجد حركة ساق وقدم الجمل وميلان أغصان النبات وانحراف النخلة والديك والدجاجة التي تلتقط الحب، وكذلك في حركة أرجل الخروف الأبيض المخالفة لحركة رجل الخروف الأسود، ومن داخل الأقواس نرى أشكالًا آدمية بها الكثير من الحميمية صبية وامرأة ورجل يتحدت ملوحًا بإصبعه، وآخر يصلي أو ربما يدعو الله وبالقرب منه آلة ما قد تكون للبناء أو الحفر، وخارج البناء امرأة تغزل، كل هذه هي مفردات وأوصاف دقيقة، بها الكثير من الحس الشعري، صورها الواسطي بروح تشكيلية، وكذلك صورة قافلة الجمال هي سمفونية نغمية لفظية تشكيلية وكذلك في صورة الحج هناك تجاوب في الحركة المندفعة إلى الأمام وترقب وتأهب من قبل الجمال والانسان وكلاهما الإنسان ومطيته يحسان برغبة الوصول إلى مبتغاهم بسرعة وحركة الرايات المندفعة إلى الأمام كل هذه صور شعرية بحتة.
التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية والاقواس النخلة بعثوقها الريانة مائلة والديك على السطح
وهنا نرصد الحرية في التعبير هي الهاجس الذي بدا واضحًا في كل أعمال الواسطي.
Comments powered by CComment