هنري مور / الفن السومري
بقلم : د.امل بورتر
نشرت في مجلة بين نهرين ( العدد 122 بتاريخ تموز 2019 ) - ( لتنزيل العدد - أضغط هنا من فضلك )
اعتبر هنري مور من أعظم نحاتي القرن العشرين من دون منازع، خرج عن التقليدية في النحت والرسم، ومارس مبدأ الرفض للقيم التي سادت مجالات النحت لفترات طويلة، في اوربا كان الحراك الثقافي حينها قد تخطى الكثير من الحدود التقليدية شمل ذلك كل نشاطاته الادبية والفكرية الفسلفية والاجتماعية كذلك من شعر ونقد ونصوص سردية والموسيقى وحتى الرسم كلها فتحت ابوابا جديدة غير متعارف عليها ،إلا أن النحت بقي مراوحًا في مكانه مدة أطول.
ولد هنري مور لأبٍ عامل من عمال المناجم في منطقة يوركشر البريطانية المعروفة بمناجمهاومجتماعتها العمالية التي عانت اغلبها من قلة الموارد المالية وصعوبة الحياة، شارك هنري مور في الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء الحرب التحق بمدرسة الفنون في مدينة (ليدز)، وبعد تخرجه منح زمالة للدراسة في الكلية الملكية للفنون ودرس فيها كذلك، وكذلك في مدرسة جلسي للفنون أيضًا عاصر هنري مور نخبة المجددين في الفن والأدب والنقد ومنهم (هربرت ريد) الناقد المعروف.
الرفض الذي مارسه هنري مور كان جذريًا، من رفض للأسلوب المتعارف عليه حينها إلى تنفيذ العمل وفقًا لقوالب معينة، داعيًا إلى إبراز حقيقة المادة المستخدمة من شكل أو تركيبة لتطويعها في وحدة متكاملة وبشكل مناسب لتخدم الموضوع، وتوظيف المادة (خشب- أو حجارة) والموضوع معًا، لخدمة أحدهما الآخر،
استمر على التأكيد على القيمة التفاعلية (للموضوع) مع ( المادة )للوصول إلى نتيجة فنية تختلف في مضمونها العام عما عرف عن استخدامات المادة واختيار الموضوع في النحت في الفترات السابقة.
في بدايات القرن الماضي عني هنري مور بما يدور في أوربا من حركات تجديدية في الفنون التشكيلية، وبقي على اتصال مباشر بكل ما له علاقة بالأفكار الجديدة وخاصة السوريالية، التي هزت المجتمعات الفنية والثقافية الأوربية وأنتج أعمالاً من السهولة تصنيفها بالسوريالية، وظهرت على أعماله التأثيرات التجريدية كذلك.
اطلع مور كبقية الطليعيين على نتاجات التراث الحضاري العالمي، ووسع أفقه ليشمل حضارات مندثرة، وبفكر متمعن وببصيرة الفنان الثاقبة، تمكن من قولبتها بما يلائم معطيات العصر الذي يعيشه، درس البعد الفني لتلك الأعمال محاولاً تطويع موروثها لخدمة فنه وأفكاره وخيالاته المتجددة والتي رفضت الصيغ الجاهزة والأفكار المعدة سلفًا.
المتحف البريطاني كان النافذة التي أطل منها هنري مور على العالم الموغل في القدم، وأخذت تأملاته لتلك الأعمال تستغرق منه وقتًا طويلًا، وبذلك احتفظ بذاكرته بخزين كبير جدًا منها وتوسعت مفرداته التشكيلية، وبدا ذلك واضحًا على نتاجاته الفنية المستقبلية.
أعمال هنري مور كانت وما زالت قبلة النقاد، أشبعوها درسًا وبحثًا مفصلًا، وحللوا كل التأثيرات ومعطياتها، وأجمع الجميع وهنري مور من ضمنهم على التأثر بالتراث المكسيكي، ووصف مور المنحوتات المكسيكية بأنها (صحيحة وحقيقية)، وأضاف ربما لأنها تشبه منحوتات العصور الوسطى على جدران سطوح الكنائس، والتي كانت تسترعي انتباهه عندما كان صبيًا.
يقول مور في زياراته المتعاقبة للمتحف البريطاني كان يدرس منحوتات فترة ما قبل التاريخ و تراث أمريكا الجنوبية المعروف بالماقبل كولومبي، والنحت الأفريقي، ولكن النحت الفرعوني والآشوري كانا لها وقع شديد، إلا أنه يعطي الأولوية للنحت الفرعوني المبكر وتأثيره القوي على شعوره اللاواعي، فلا ينكر استلهامه تمثال رجل وامرأة جالسين في عمله الموسوم (الملك والملكة)، أما عن النحت الآشوري، فيقول: كان هذا النحت متقن الصنعة إلى أبعد الحدود، مما جعلني أشعر ببعد الفنان النحات وقرب الفكر الدعائي –الإعلاني، مما لم تثر فيَّ مواضيعه الإعجاب، يبدو أن مورفي هذا الحديث المقتضب لم يفصح بشكل علني عن تأثره العميق بكل الفنون القديمة، وحاول الاقتصادكما معروف عنه في الكلام والحديث عامة ،ا أو ربما لم يعطها بأقواله الأهمية التي تستحقها، إلا أن ترك أعماله (منحوتاته) تفصح وتتحدث بوضوح عن اهتماماته وتأثيراته واستلهاماته.
لقد لاحظ ذلك أحد النقاد الأمريكيين في عام 1931حين كتب يقول في (أخبار الفن، رسالة لندن) معلقًا على معرض مور، ويصل إلى المقطع الذي يصف منحوتات مور بما يلي:
(تحريف وتعويج للجسم الأنثوي صفة من صفات أعمال هنري مور، هناك نوبة/ضربة تأثيرية بأسلوب سومري، ولكن ليس بالأسلوب الشاعري المؤثر الذي وصلنا من سومر بما يزيد عن الألفي سنة ،،،الخ)
ثلاثينات القرن الماضي، بدأ هنري مور في تنفيذ سلسلة مواضيع فنية، حيث الجسم يبدو متكئًا أو شبه مضطجع، غالبية الأجسام أنثوية، وكذلك سلسلة مواضيع العائلة، حيث الأم والأب والطفل، ولو نظرنا إلى هذه الأعمال، فإن تأثيرات فنون وادي الرافدين من مراحل مختلفة تبدو واضحة جلية للعيان، ولاحظنا طريقة تنفيذ ألا كف والاذرع و حتى الكتف و الجذع ، لوقارنا ذلك بالمنحوتات التي وصلتنا من مراحل مختلفة من فنون وادي الرافدين، فإن فنان وادي الرافدين من اغلب فتراته وهنري مور يلتقيان في نقاط عديدة.
نستطيع تقسيم أعمال هنري مور حسب موضوعاتها:
- الأجسام النصفية_
- _مجموعة الأجسام الآدمية الجالسة- أو ما تعرف بالعائلة وكذلك الاجسام المنفردة الأجسام المتكئة/ المضطجعة _
- الأشكال المجردة- تجريد متناهي_
الاجسام النصفية
نفذت أغلبها في فترة الثلاثينات وبداية الأربعينات وتتلاقى كثيرًا مع آلهة الخصوبة، الآلهة الأم لفترة ما قبل التاريخ، وكذلك مع الفترة الشبه كتابية في وادي الرافدين،إذ تجمع هذه المنحوتات ميزات واضحة، منها عدم التدقيق في معالم الوجه أو تجاهلها كليًا، صغر حجم الرأس نسبيًا مقارنة مع الذراعين، قوة وضخامة الساعدين وتركيز ملحوظ على الكف والأصابع، فأن حركة الكف تسترعي انتباه المتلقي لضخامتها والعناية الشديدة في دقة الأصابع وحركتها غير الاعتيادية، وكذلك شفافيتها والحساسية المفرطة في تنفيذها، رغم أن الموضوع يمثل الأنثى إلا أن قوة وضخامة الكتف والساعد واضحة جدًا، التركيز متعمد في هذه المبالغة والضخامة، وذلك لتشكل نوع من التضادد النسبي وهذا التضادد يشكل محور ونقطة ارتكاز العمل الفني.
صغر حجم الرأس وجمود الوجه وخلوه من الحواس هو نوع من المواجهة والتحدي الصامت، هذه الدعوة الصريحة لتجاهل الوجه غير المعبر أصلًا بالشكل التقليدي والذي لا يثير في المشاهد أي انفعال بل يدعو المشاهد إلى تجاوزه، كل هذا يقود إلى السير بسهولة ويسر للوصول إلى الذراعين التي هي محور الموضوع، وهذا بالتالي يدعو المشاهد إلى التفكير والتساؤل عن سبب إبقاء الوجه جامدً أصم، يقول هنري مور عن ذلك: إن التفاصيل الأكاديمية التقليدية تشرح للمشاهد العمل بيسر وسهولة، وتعبر عن الصفة الممنوحة له بكل جلاء، مما يجعل العمل الفني يبدو كوسيلة إيضاح مدرسية أو إعلان تجاري نقرأه ببضع دقائق وننساه.
إن أعمال هنري مور لا تقدم شرحًا أو حلولًا بل تقدم أسئلة واستفسارات، كما وأنها لا تقدم صفة لحالات أو تعابير لأحاسيس بل تترك المشاهد في حيرة عليه أن يجد الحلول والإجابة على حيرته، بذلك يستقطب العمل الفني فكر ونظر المشاهد ويبقى محتلًا حيزًا كبيرًا من ذاكرة المشاهد إن وجد الأجوبة لتساؤلاته أم لا.
- التشكيلات المتكئة والمضطجعة مجموعة الأجسام الآدمية الجالسة- أو ما تعرف بالعائلة وكذلك الاجسام المنفردة.
ابتدأ هنري مور بإنتاج هذه المجموعة في أواسط الأربعينات، فقد كلف حينها بتغطية فنية لفترة الحرب العالمية الثانية وتصوير معاناة المجتمع البريطاني،
ركز هنري مور على المخابئ والملاجئ التي شغلها سكان لندن خلال ساعات القصف المكثفة والمستمرة، وسجل ما شاهده بشكل تشكيلي وثائقي، وأنتج الكثير من التخطيطات تغطي هذه المدة، هنا بدأت نواة فكرة مواضيع الشخصيات- العائلة الثلاثية تظهر بشكل أو آخر، ففي تلك الأماكن حيث يتجمع أفراد العائلة ويلتصق بعضهم ببعض، لفتات من الحنان والحماية كانت قد احتلت مخيلة الفنان تمامًا، أخذ مور بإنتاج مواضيع العائلة، حيث أبقى على أسلوبه الذي اعتمده، وذلك بتجاهل تفاصيل الوجه والتركيز على ضخامة اليدين والساعد، بقت الأصابع تحتفظ بتفاصيلها الانسيابية الواضحة، وبسهولة نقرأ العلاقة الحميمة الصميمية التي تربط مجموعة التماثيل، من حركة التفاف بسيطة ليد موضوعة على الكتف أو تماس ركبة الأشخاص أو ميلان رأس أو حتى استمرارية الغطاء القماشي الذي يبدو وكأنه قطعة واحدة غير مفصولة يشترك فيها الأب والأم،
هذه التماثيل تشارك التي سبقتها في التأكيد على أهمية الذراعين، ولكن مور إذ يولي اهتمامه بالجسم ككل، أصبح للساقين حضورٌ واضحٌ وهي الآن تتوازى مع الذراعين، فلقد دفع مور بأفكاره عدة خطوات إلى الأمام مستخدمًا نفس الأسلوب، إلا أنه أخذ يلعب بالفراغ والضوء الذي يتسرب عبر الفتحات الموزونة والمحسوبة بدقة، في هذه المواضيع و التوليفات نجد الهاماتها واضحة من كثير من الأختام الأسطوانية، إلا أن مور كان من الشجاعة بحيث نفذها على شكل مجسمات، وهي تشترك مع بقية الأعمال في كثير من مقوماتها،اذ ان الاشكال بتنوعاتها في الاختام السومرية والاختام عامة في وادي الرافدين متلاصقة متقاربة فنجد البشر والحيوانات والنباتات الابنية والمواد الطقسية متراصة متلاحمة تقف على بعد واحد، وهذا ما قدم لنا هنري مور وكأن تخطيطاته تبدو نسخة محسنة ومتطورة لتخطيط أولي قام به فنانو الأختام الأسطوانية في وادي الرافدين.
الأشكال التجريدية
كان المجال واسعًا رحبًا أمام خيالات واستلهامات هنري مور، فالحركات التجريدية تملأ الفضاء الفني الأوروبي، الأفكار الغريبة والاستفزازية تقابل بكثير من الارتياح والإعجاب أحيانًا والاستغراب أحيانًا أخرى، التحدي والتجديد استوليا كليًا على فكر ومخيلة أغلبية الفنانين، أخذ كل منهم يدلو بدلوه، أصبح أمامهم عالم ممدود واسع لا حدود له، وسافرت مخيلة الفنان مسافات بعيدة جدًا، في كل تلك الرحلات كان النتاج الفني يطعم بنكهة جديدة، أفريقية، آسيوية، مكسيكية، شرق أوسطية، وأحيانًا كثيرة توغلت إلى أعماق التاريخ السحيقة، ووصلت إلى فترات ما قبل التاريخ أو ربما وقفت عند الفنون البدائية.
نتيجة لهذه الاستلهامات والاشتقاقات خرج هنري مور بحصيلة ثمينة ونفيسة، وأغنى العالم بثروة فنية هائلة، فقرّب حضارات وموروثات، جعلها تلتقي في أحضان الفن.
حسبما نرى، فأن هنري مور قد استلهم الأعمال الرافدية وبقية الحضارات كذلك، إ لا أنه وضف عمله بما يلائم فكره وذوقه العصري من دون إغفال أهمية علم
الجمال (الاستطيقا)،جاءت أعماله موزونة تمامًا من حيث الكتلة وتوزيع الثقل واختيار زاوية النظر وعدم إغفال تلاحم العمل كوحدة فنية من حيث الموضوع والشكل والمادة،جعل من ثقل الكتلة والفراع بينها والفضاء الذي تحتله كحجم علامة مشتركة تنسجم فيما بينها وجعل المضمون والتوزيع للكتله ومركزيتها وانسايبيتها مجال واسع للتمرد على الافكار التقليدية المتعارف عليها في النحت.
أعمال هنري مور هزت كيان مؤسسات النحت الأوروبي، وخلقت أبعادًا جديدة، فتحت الدرب لكثير من الفنانين الجدد وأعطتهم زخمًا وثقة بإنتاج أعمال (مختلفة) لولا سعة أفق هنري مور وخصب خياله وتقبله بل تبنيه لأفكار ونتاجات حضارية مختلفة عن بيئته، واستخدامه الذكي لهذا المخزون التشكيلي لما تطور فن النحت وأخذ يواكب الرسم في مسيرته نحو التجديد والإبداع.
واخيرا لن يفوتني ان اذكر ان جواد سليم كان احد طلاب هنري مور.
Comments powered by CComment